الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: عيون الأنباء في طبقات الأطباء (نسخة منقحة)
.سلمويه بن بنان متطبب المعتصم: لما استخلف أبو إسحاق محمد المعتصم باللّه وذلك في سنة ثمان عشرة ومائتين اختار لنفسه سلمويه الطبيب وأكرمه إكرامًا كثيرًا يفوق الوصف، وكان يرد إلى الدواوين توقيعات المعتصم في السجلات وغيرها بخط سلمويه، وكل ما كان يرد على الأمراء والقواد من خروج أمر وتوقيع من حضرة أمير المؤمنين فبخط سلمويه، وولى أخا سلمويه إبراهيم بن بنان خزن بيوت الأموال في البلاد، وخاتمه مع خاتم أمير المؤمنين، ولم يكن أحد عنده مثل سلمويه وأخيه إبراهيم في المنزلة، وكان سلمويه ابن بنان نصرانيًّا حسن الاعتقاد في دينه، كثير الخير، محمود السيرة، وافر العقل، جميل الرأي، وقال إسحاق بن علي الرهاوي، في كتاب أدب الطبيب، عن عيسى بن ماسة قال أخبرني يوحنا بن ماسويه عن المعتصم، أنه قال سلمويه طبيبي أكبر عندي من قاضي القضاة، لأن هذا يحكم في نفسي، ونفسي أشرف من مالي وملكي، ولما مرض سلمويه الطبيب أمر المعتصم ولده أن يعوده فعاده، ثم قال أنا أعلم وأتيقن أني لا أعيش بعده لأنه كان يراعي حياتي ويدبر جسمي ولم يعش بعده تمام السنة، وقال إسحاق بن حنين، عن أبيه إن سلمويه كان أعلم أهل زمانه بصناعة الطب، وكان المعتصم يسميه أبي، فلما اعتل سلمويه عاده المعتصم وبكى عنده وقال تشير علي بعدك بما يصلحني فقال سلمويه يعز علي بك يا سيدي ولكن عليك بهذا الفضولي يوحنا بن ماسويه، وإذا شكوت إليه شيئًا فقد يصف فيه أوصافاً، فإذا وصف فخذ أقلها أخلاطاً، فلما مات سلمويه امتنع المعتصم من أكل الطعام يوم موته، وأمر بأن تحضر جنازته الدار ويصلى عليه بالشمع والبخور على زي النصارى الكامل، ففعل وهو بحيث يبصرهم ويباهي في كرامته، وحزن عليه حزنًا شديداً، وكان المعتصم الهضم في جسمه قوي، وكان سلمويه يفصده في السنة مرتين، ويسقيه بعد كل مرة دواء مسهلاً، ويعالجه بالحمية في أوقات، فأراد يوحنا بن ماسويه أن يريه غير ما عهد، فسقاه دواء قبل الفصد وقال أخاف أن تتحرك عليه الصفراء، فعند ما شرب الدواء حمي دمه، وحم جسمه، وما زال جسمه ينقص، والعلل تتزايد إلى أن نحل بدنه ومات بعد عشرين شهرًا من وفاة سلمويه، وكانت وفاة المعتصم في شهر ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين، قال يوسف بن إبراهيم قال المعتصم لأبي إسحاق إبراهيم بن المهدي في أول مقدمه من بلد الروم، وهو خليفة يا عم أمورك مضطربة عليك منذ أول أيام الفتنة لأنك بليت في أولها مثل ما شمل الناس، ثم خصك بعد ذلك من خراب الضياع وتخرم حدودها لاستتارك سبع سنين من الخليفة الماضي ما لو لم يتقدمه شيء من المكروه لقد كانت فيه كفاية؛ ثم ظهر من سوء رأي المأمون، بعد ذلك، فيك ما طمَّ على كل ما تقدم من المكروه النازل بك، فزاد ذلك في أمرك، وفكرت فيك فوجدتك تحتاج إلى أن يرد علي في يوم خبرك وما تحتاج إليه لمصالح أمورك، ورأيت ذلك لا يتم إلا بتقليدي عن القيام برفع حوائجك إلى خادم خاص بي، وقد وقع اختياري لك على خادمين لي يصل كل واحد منهما إلي في مجالس جدي وهزلي، بل يصل إلي في مرقدي ومتوضئي، وهما مسرور سمانه الخادم وسلمويه بن بنان، فاختر أيهما شئت وقلده حوائجك؟ فوقع اختياره على سلمويه.وأحضره أمير المؤمنين فأمره أن يتولى إيصال رسائله إليه في جميع الأوقات، قال يوسف فقربني أبو إسحاق بسلمويه، وكنت لا أكاد أفارقه، وكان خروج أمير المؤمنين عن مدينة السلام آخر خرجاته عن غير ذكر تقدم لخروج إلى ناحية من النواحي، وكان الناس قد حضروا الدكة بالشماسية لحلية السروج في يوم الأربعاء لسبع عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة عشرين ومائتين، فأخرجت الخيل، ودعا بالجمازات فركبها ونحن لا نشك في رجوعه من يومه، ثم أمر الموالي والقواد باللحاق به، ولم يخرج معه من أهل بيته أحد إلا العباس بن المأمون وعبد الوهاب بن علي، وخلف المعتصم الواثق بمدينة السلام، إلى أن صلى بالناس يوم النحر سنة عشرين ومائتين، ثم أمر بالخروج إلى القاطول فخرج، فوجهني أبو إسحاق بحوائج له إلى باب أمير المؤمنين، فتوجهت، فلم يزل سيارة مرة بالقاطول ومدينة القاطول ومرة بدير بني الصقر، وهو الموضع الذي سمي في أيام المعتصم والواثق بالإيتاخية وفي أيام المتوكل بالمحمدية، ثم صار المعتصم إلى سر من رأى فضرب مضاربه فيها وأقام بها في المضارب، فإني، في بعض الأيام، على باب مضرب المعتصم إذ خرج سلمويه بن بنان فأخبرني أن أمير المؤمنين أمره بالمضي إلى الدور والنظر إلى سوار تكين الفورغاني، والتقدم إلى متطببه في معالجته من علة يجدها بما يراه سلمويه صواباً، وحلف علي أن لا أفارقه حتى نصير إلى الدور ونرجع، فمضيت معه فقال لي حدثني في غداة يومنا هذا نصر بن منصور بن بسام أنه كان يساير المعتصم باللّه في هذا البلد يعني بلد سر من رأى وهو أمير، قال لي سلمويه قال لي نصر إن المعتصم أمير المؤمنين قال له يا نصر أسمعت قط بأعجب ممن اتخذ في هذا البلد بناء وأوطنه ليت شعري ما أعجب موطنه حزونة أرضه، أو كثرة أخافيفه، أم كثرة تلاعه وشدة الحر فيه إذا حمي الحصى بالشمس، ما ينبغي أن يكون متوطن هذا البلد إلا مضطرًا مقهورًا أو ردي التمييز.قال لي سلمويه قال لي نصر بن منصور وأنا واللّه خائف أن يوطن أمير المؤمنين هذا البلد، فإن سلمويه ليحدثني عن نصر إذ رمى ببصره نحو المشرق فرأى في موضع الجوسق المعروف بالمصيب أكثر من ألف رجل يضعون أساس الجوسق، فقال لي سلمويه أحسب ظن نصر بن منصور قد صح، وكان ذلك في رجب سنة إحدى وعشرين ومائتين، وصام المعتصم في الصيف في شهر رمضان من هذه السنة، وغدى الناس فيه يوم الفطر، واحتجم المعتصم بالقاطول يوم سبت وكان ذلك اليوم آخر يوم من صيام النصارى، فحضر غداءه سلمويه بن بنان، واستأذنه في المصير إلى القادسية ليقيم في كنيستها باقي يومه وليلته، ويتقرب فيها يوم الأحد، ويرجع إلى القاطول قبل وقت الغداء من يوم الأحد فأذن له في ذلك وكساه ثيابًا كثيرة، ووهب له مسكًا وبخورًا كثيراً، فخرج منكسرًا مغمومًا وعزم علي بالمصير معه إلى القادسية فأجبته إلى ذلك، وكانت عادتنا متى تسايرنا قطع الطريق إما بمناظرة في شيء من الآداب وإما بدعابة من دعابات المتأدبين، فلم يجارني شيء من البابين جميعاً، وأقبل على الفكرة وتحريك يده اليمنى، وشفته تهمس من القول بما لا يعلنه، فسبق إلى وهمي أنه رأى من أمير المؤمنين في أمر نفسه شيئًا أنكره؛ ثم أزال ذلك الوهم عني إقدامه على الاستئذان في المصير إلى القادسية والثياب والطيب الذي جيء به، فسألته عن سبب قراءته وفكرته، فقال لي سمعتك تحكي عن بعض ملوك فارس قولًا في العقل، وأنه وجب أن يكون أكثر ما في الإنسان عقله فأعده علي وخبرني باسم ذلك الملك؟ قال له قال أنو شروان إذا لم يكن أكثر ما في الرجل عقله كان أكثر ما فيه برديه، فقال قاتله اللَّه فما أحسن ما قال، ثم قال أميرنا هذا يعني الواثق، حفظه لما يقرأ ويقرأ عليه من الكتب أكثر من عقله، وأحسبه قد وقع في الذي يكره وأنا أستدفع اللَّه في المكاره عنه، وبكى، فسألته عن السبب فقال أشرت على أمير المؤمنين بترك الشرب في عشية أمس ليباكر الحجامة في يومنا هذا على نقاء، فجلس وأحضر الأمير هارون وابن أبي داؤد وعبد الوهاب ليتحدث معهم، فاندفع هارون في عهد أردشير بن بابك، وأقبل يسرد جميع ما فيه ظاهرًا حتى أتى على العهد كله فتخوفت عليه حسد أبيه له على جودة الحفظ الذي لم يرزق مثله وتخوفت عليه إمساك أبيه ما حدّ أردشير بن بابك في عهده من ترك إظهار البيعة لولي عهده.وتخوفت عليه ما ذكر أردشير في هذا الباب من ميل الناس نحو ولي العهد متى عرفوا مكانه وتخوفت عليه ما ذكر أردشير من أنه لا يؤمن اضطغان ولي العهد على أسباب والده متى علم أنه الملك بعد أبيه وأنا، واللَّه، عالم بأن أقل ما يناله في هذا الباب التضييق عليه في معاشه، وأنه لا يظهر له بيعة أبداً، فاغتمامي بهذا السبب فكان جميع ما تخوف سلمويه علي ما تخوف، قال يوسف واستبطأ المعتصم أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي في بعض الأمور واستجفاه، فكتب إليه كتابًا أمرني بقراءته على سلمويه ومناظرته فيه، فإن استصوب الرأي في إيصاله ختمته وأوصلته، وإن كره ذلك رددته على أبي إسحاق، فقرأته على سلمويه فقال لي قل له قد جرى لك المقدار مع المأمون والمعتصم، أعز اللَّه الباقي ورحم الماضي، بما يوجب عليك شكر ربك، وألاّ تنكرّ عليّ بالخليفتين تنكرهما في وقت من الأوقات، لأنك تسميت باسم لم يتسم به أحد قط فكاثر الأحياء، فإن كان المقدار استعطف عليك رحمك حتى صرت إلى الأمن من المكروه، فليس ينبغي أن تتعجب من تنكر الخليفة، وفي وقت من الأوقات، أن طعن بعض أعدائك عليك بما كان منك؛ فيظهر بالجفاء اليومين والثلاثة أو نحو ذلك، ثم ينعطف عليك ويذكر ماسة رحمك وشابكتها فيؤول أمرك إلى ما تحب، ولك أيضًا آفة يجب عليك التحرز منها وهي أنك تجلس مع الخليفة في مجلسه وفيه جماعة من أهله وقواده ووجوه مواليه، فهو يجب أن يكون أجل الناس في عيونهم وأملأ لقلوبهم، فلا يجري جار من القول إلا ظهرت لنفسك فيه قولًا يتبين نصرتك فيه عليه فلو كنت مثل ابن أبي داؤد أو مثل بعض الكتاب لكان الأمر فيه أسهل عليه، لأنه ما كان لتلك الطبقة، فهو للخليفة لأنهم من عبيده؛ وما كان لرجل من أهله له السن والقعدد عليه فهو موجب لمن السن والقعدد له، وذلك مزر بالخليفة، وأنا أرى أن لا أوصل هذا الكتاب وأن يتغافل، أعزه اللَّه، حتى يتشوق إليه الخليفة، فإذا صار إليه تحرز مما كرهته له، ففي ذلك غنى عن العتاب والاستبطاء.قال فانصرفت إلى أبي إسحاق بالكتاب ولم أوصله، فوجدت سيما الدمشقي عند صاحبنا وقد أبلغه رسالة المعتصم بوصف شوقه إليه، وبالأمر بالركوب إليه، فأخبرته بما دار بيني وبين سلمويه، وركب فاستعمل ما أشار به، فلم ينكربعد ذلك منه شيئًا حتى فرق بينهما الموت، قال يوسف وجرى بيني وبين سلمويه ذكر يوحنا بن ماسويه، فأطنبت في وصفه وذكرت منه ما أعرف من اتساع علمه، فقال سلمويه يوحنا آفة من آفات من اتخذه لنفسه، واتكل على علاجه وكثرة حفظه للكتب، وحسن شرحه ووصفه بما يلجم به المكروه، ثم قال لي أول الطب معرفة مقدار الداء حتى يعالج مقدار ما يحتاج إليه من العلاج، ويوحنا أجهل خلق اللَّه بمقدار الداء والدواء جميعاً، فإن زاول محرور عالجه من الأدوية الباردة والأغذية المفرطة البرد وبما يزيل عنه تلك الحرارة، ويعقب معدته وبدنه برداً، ويحتاج له إلى المعالجة بالأدوية والأغذية الحارة، ثم يفعل في ذلك كفعله في العلة الأولى من الإفراط ليزول عنه البرد، ويعتل من حرارة مفرطة، فصاحبه أبدًا عليل إما من حرارة وإما من برودة، والأبدان تضعف عن احتمال هذا التدبير، وإنما الغرض في اتخاذ الناس المتطببين لحفظ صحتهم في أيام الصحة، ولخدمة طبائعهم في أيام العلة، ويوحنا لجهله بمقادير العلل والعلاج غير قائم بهذين البابين، ومن لم يقم بهما فليس بمتطبب، قال يوسف وأصابت إبراهيم بن بنان أخا سلمويه بن بنان هيضة من خوخ أكله فأكثر منه فكادت تأتي على نفسه، فسقاه أخوه سلمويه شهريارانًا كثير السقمونيا، فأسهله إسهالًا كثيرًا زائدًا على المقدار الذي يجب أن يكون ممن شرب مثل ما شرب إبراهيم من الشهرياران، وانقطع مع انقطاع فعل الشهرياران فعل الهيضة، فقلت له أحسبك امتثلت فيما فعلت بأخيك، من إسقائه الدواء المسهل، طريقة يزيد بور في ثمامة العبسي، فقال ما استعملت له طريقة ولكني استعملت فكري كما استعمل فكره فنتج لي من الرأي ما نتج له، قال يوسف وكنت يومًا عند سلمويه وقد أجرينا حديث أيام الفتنة بمدينة السلام أيام محمد الأمين، فقال لي لقد نفعنا اللَّه في تلك الأيام بجوار بشر وبشير ابني السميدع، وذلك أنا كنا معهما في كل حمى، ثم قال لي؟ هل لك أن تركب إلى بشير، فتعوده، فقد كنت يئست منه أول من أمس ثم أفرق أمس؟ فأجبته إلى الركوب معه وركبنا، فلما صرنا إل باب الدرب الذي كان بشير ينزله طلع علينا بولس بن حنون المتطبب، الذي هو اليوم متطبب أهل فلسطين، وهو منصرف من عند بشير، فسأله عن خبره فأجابه بكلمة بالسريانية معناها بئس، فقال له سلمويه ألم تخبرني أمس أنه قد أفرق؟ فقال له بولس قد كان ذاك إلا أنه أكل البارحة دماغ جدي فعاوده الإسهال، فعطف سلمويه رأس دابته وقال انصرف بنا فليس يبيت بشير في الدنيا، فسألته عن السبب، فذكر أنه رجل مبطون، وأن أول آفته كانت في البطن، فساد معدته، فتطاولت أيامه في البطن بفساد المعدة إلى أن كان ذلك سببًا لفساد كبده، وأن الدماغ الذي أكله سيعلق بمعدته ويغرّي ما بين غضونها فلا يدخلها غذاء ولا دواء إلا زلق، انصرفنا ولم يعده سلمويه ولا عدته فما بات حتى توفي.قال يوسف وصحبت بعد وفاة أبي إسحاق، أبا دلف، فصحبته وقد كان مبطونًا قبل صحبتي إياه بخمسة عشر شهراً، وكان مجلس أبي دلف مجمعًا للمتطببين لأنه كان معه من المرتزقة جماعة منهم يوسف بن صليبا، وسليمان بن داؤد بن بابان، ويوسف القصير البصري ولا أحفظ نسبه، وبولس بن حنون متطبب فلسطين وختن كان له من اللجاج، والحسن بن صالح بن بهلة الهندي، وكان يحضر مجلسه من المتطببين غير المرتزقين جماعة، فربما اجتمع في مجلسه منهم عشرون رجلاً، فكانوا على سبيل اختلاف في أصل علته، فبعضهم كان يرى أن يسقيه الدرياق، وبعضهم كان يرى أن يعالجه بالأدوية التي يقع فيها الأبيون مثل المتروديطوس وغيره، وكلهم كان مجمعًا على معالجته بالحمية وبالقيء في كل بضع عشرة ليلة لأنه كان متى تقيأ صلحت حاله ثلاثة أيام أو نحوها، فأقمت معه عشرة أشهر لا أذكر أني تشاغلت في يوم منها بأمر من أمور الأعمال التي أتقلدها، فسلمت من رسول له يستنهضني للمسير إليه وللنظر فيما بين المتطببين من الاختلاف، ثم أمر المعتصم حيدر بن كاوس بالعقد لأبي دلف على قزوين وزنجان ونواحيها؛ وإبراهيم بن البحتري بتقليده خراج الناحية؛ ومحمد بن عبد الملك بتقليده ضياعها، فقلد أبو دلف ابنه معنا بن القاسم، المعونة؛ وقلدني، الخراج والضياع؛ وأمرنا بالخروج، فأتيت سلمويه مودعًا ومشاوراً، فقال لي، انقلاعك من بلدك مع رجل منحل بدنه منذ خمسة وعشرين شهراً، وجميع من يطيف به معك لا يجمعك وإياهم رحم، وإنما هم أهل الجبل وأصبهان، وأكثرهم صعاليك، ولعلك قد استقصيت على بعضهم بالحضرة، وحيث كنت تأمن على نفسك بما لا أحبه لك، لأنه إن حدث بالرجل حادث كنت في أرض غربة أسيرًا في أيدي من لا مجانسة بينك وبينهم، وامتناعك على الرجل بعد أن أجبته إلى أن تتقدمه تسمج، ولكن استأجله في الخروج بعد سبعة أيام.وأشرف في هذه الأيام على مطعمه ومشربه حتى لا يصل إلى جوفه في هذا الأسبوع مأكول ومشروب إلا عرفت مبلغ وزنه على الحقيقة، ووكل من يعرف وزن ما يخرج منه في هذا الأسبوع من ثقل وبول، وأرفع وزن ذلك ليوم بعد يوم إليك، وصر إلي بعد هذا الأسبوع بمبلغ وزن جميع ما دخل بطنه من الطعام والشراب وغير ذلك، ووزن ما يخرج منه، فعنيت بذلك غاية العنايةوتعرفته حتى صح عندي، فوجدت ما خرج من بدنه قريبًا من ضعف ما دخله من مطعم ومشرب، فأعلمت ذلك سلمويه، فقال لي لو كان خرج منه بوزن ما دخل بدنه لدل ذلك على سرعة تلفه، فكيف ترى الحال كائنة والخارج منه مثل ضعف ما دخل بدنه الهرب من التلبيس بأمر هذا الرجل، فإن الشوق قد جذبه، فما لبث بعد هذا القول إلا بضع عشرة ليلة حتى توفي أبو دلف، قال أبو علي القباني حدثني أبي قال كانت بين جدي الحسين بن عبد اللَّه وبين سلمويه المتطبب مودة، فحدثني أنه دخل إليه يومًا إلى داره، وكان في الحمام ثم خرج وهو مكمكم والعرق يسيل من جبينه، وجاءه خادم بمائدة عليها دراج، مشوي، وشيء أخضر في زبدية، وثلاث رقاقات كزمازك، وفي سكرجة خل، فأكل الجميع، واستدعى ما مقداره درهمان شرابًا فمزجه وشربه وغسل يديهبماء، ثم أخذ في تغيير ثيابه البخور، فلما فرغ أقبل يحادثني فقلت له قبل أن أجيبك إلى شيء عرفني ما صنعت؟، فقال أنا أعالج السل منذ ثلاثين سنة لم آكل في جميعها إلا ما رأيت، وهو دراج مشوي، وهندبا مسلوقة مطجنة، وهذا المقدار من الخبز، وإذا خرجت من الحمام احتجت إلى مبادرة بما يسكنها كيلا تعطف على بدني فتأخذ من رطوبته، فأشغلها بالغذاء ليكون عطفها عليه، ثم أتفرغ لغيره، إبراهيم بن فزارون متطبب غسان بن عباد، وإبراهيم بن فزارون هو شيخ بني فزارون الكتّاب، قال يوسف بن إبراهيم كان إبراهيم بن فزارون قد خرج مع غسان عباد إلى السند، فحدثني أن غسان بن عباد مكث بأرض السند من يوم المهرجان يشتهي أن يأكل قطعة لحم باردة، فما قدر على ذلك، فسألته عن السبب فقال كنا نطجنه فلا يبرد حتى يُرْوحِ فيرمى به، قال يوسف وأخبرني إبراهيم بن فزارون أنه ما أكل بأرض السند لحمًا استطابه إلا لحوم الطواويس وأنه لم يأكل لحمًا قط أطيب من لحم طواويس بلاد السند، وحدثني إبراهيم بن عيسى بن المنصور المعروف بابن نزيهة عن غسان بن عباد في لحوم الطواويس بمثل ما حدثني إبراهيم بن فزارون، قال يوسف وحدثني إبراهيم بن فزارون أنه رفع إلى غسان بن عباد أن في النهر المعروف بمهران بأرض السند سمكة تشبه الجدي، وأنها تصاد ثم يطين رأسها وجميع بدنها إلى موضع مخرج الثفل منها، ثم يجعل ما لم يطين منها على الجمر، ويمسكها ممسك بيده حتى ينشوي منها ما كان موضوعًا على الجمر، وينضج ثم يؤكل ما نضج أو يرمى به؛ وتلقى السمكة في الماء ما لم ينكسر العظم الذي هو صلب السمكة، فتعيش وينبت على عظمها اللحم، وأن غسان أمر بحفر بركة في داره وملأها ماء وأمر بامتحان ما بلغه، قال إبراهيم فكنا نؤتي كل يوم بعدة من هذا السمك فنشويه، على الحكاية التي ذكرت لنا، ونكسر من بعضه عظم الصلب ونترك بعضه لا نكسره، فكان ما يكسر عظمه يموت، وما لم يكسر عظمه يسلم وينبت عليه اللحم ويستوي الجلد، إلا أن جلدة تلك السمكة تشبه جلد الجدي الأسود؛ وما قشرناه من لحوم السمك التي شويناها ورددناها إلى الماء يكون على غير لون الجلدة الأولى لأنه يضرب إلى البياض.قال يوسف وسألت إبراهيم بن فزارون عن قول من يزعم أن نهر مهران هو نهر النيل فقال لي رأيت نهر مهران وهو يصب في البحر المالح إلا أن علماء الهند والسند أعلموني أن مخرج النيل ومخرج نهر مهران من عين واحدة عظيمة، فنهر مهران يشق أرض السند حتى يصب في بحرها المالح، والنهر الآخر يشق أرض الهند وجميع أرض السودان حتى يخرج إلى أرض النوبة، ثم يصب باقيه في أرض مصر فيرويها ثم يصب باقيه في بحر الروم، قال يوسف وحدثني عنبسة بن إسحاق الضبي من أمر العين التي منها يخرج نهر مهران والنيل بمثل ما حدثني به إبراهيم، وكان يحدثنا بحديث السمك في كل وقت، أيوب المعروف بالأبرش كان له نظر في صناعة الطب ومعرفة بالنقل، وقد نقل كتبًا من مصنفات اليونانيين إلى السرياني وإلى العربي وهو متوسط النقل، وما نقله في آخر عمره فهو أجود مما نقله قبل ذلك، إبراهيم بن أيوب الأبرش قال إسحاق بن علي الرهاوي في كتاب أدب الطبيب حدثني عيسى بن ماسة قال رأيت إبراهيم بن أيوب الأبرش وقد عالج إسماعيل أخا المعتز وبرئ، فكلمت أمه قبيحة المتوكل أن يجيزه، فقال لها لا تجيزيه ليس عندك ما تعطيه حتى أعطيه أنا مثله، وإبراهيم واقف بين أيديهما؛ فأمرت قبيحة فأحضرت بدرة دراهم لإبراهيم، وأمر المتوكل بإحضار مثل ذلك؛ فأحضرت قبيحة بدرة أخرى فأمر بإحضار مثلها، فلم يزالا يأمران بإحضار بدرة وبدرة حتى أحضرت ست عشرة بدرة، فأومت قبيحة إلى جاريتها أن تمسك، فقال لها إبراهيم سرًا لا تقطعي وأنا أرد عليك، فقالت له أملأ اللَّه عين الآخر، فقال لها المتوكل واللّه لو أعطيته إلى الصباح لأعطيته مثل ذلك، فحملت البدر إلى منزل إبراهيم، وقال ثابت بن سنان بن ثابت أن الخلافة لما تأدت إلى المعتز باللَّه كان أخص المتطببين عنده إبراهيم بن الأبرش لمكانه من والدته قبيحة، وكانت صلاته أبدًا واصلة إليه، وخلع أبو عبد اللّه المعتز باللَّه بسر من رأى، وقبض عليه صالح بن وصيف يوم الاثنين لثلاث بقين من رجب سنة خمس ومائتين وحبسه خمسة أيام، ثم قتل وقت العصر من يوم الجمعة لليلتين خلتا من شعبان من السنة المذكورة وله ثلاث وعشرون سنة.
|